تتميز مهنة التدريس عن باقي المهن الأخرى بكونها تشكل
بوتقة ينصهر فيها الذاتي بالموضوعي، النفسي بالاجتماعي، المعرفي
بالبيداغوجي، التقني بالاستراتيجي، الفكري بالسياسي، الماضي بالحاضر
وبالمستقبل، فالأمر إذا بالنسبة لهذه المهنة لا يقتصر فقط على ضبط معارف
ومهارات بعينها كما هو الشأن بالنسبة لباقي المهن، بل الأمر يتجاوز ذلك
بكثير، لأن الأمر يتعلق ب "الإنسان" الظاهرة المعقدة والمتغيرة باستمرار،
لذلك يجد المدرس نفسه ملزما بالإلمام بمختلف "الكفايات
والملكات والمواصفات المعرفية والمنهجية والتربوية والتواصلية والتقنية
والاستراتيجية التي يتحقق بتوافرها مدرس له تأثير إيجابي واضح على
المتعلمين وعلى محيطه القريب والبعيد"
.
فمهمة التدريس مسؤولية جسيمة وخطيرة تستدعي "الجدية
الفكرية الدائمة، وتحفيز دوافع التطلع المعرفي، والقدرة على الحب وعلى
الإبداع وعلى الكفاءة العلمية، والابتعاد عن الاختزال العلمي، ويتطلب
التدريس كذلك القدرة على الكفاح من أجل الحرية، والتي دونها تخلو مهمة
التدريس من كل معنى"
.
ولعل التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا
الصدد هو: ما هي أهم الكفايات التي يجب أن تتوفر في المدرس حتى يتمكن من
أداء الأدوار المنوطة به باعتباره يشكل أبرز عناصر العملية التعليمية، وحجر
الزاوية في كل إصلاح وتطوير تربوي؟!
1 _ الكفاية التخصصية أو النوعية:
وتتمثل في مجموعة من المعارف التي ينبغي للمدرس أن يمتلكها ويتقنها من
الناحية الإبيستمولوجية والمنهجية. ومن هذا المنظور، لا يعقل أن نقول مثلا
بأن مدرس الرياضيات يمتلك كفاية التدريس أو الكفاية المهنية إذا كان يدرس
الهندسة الأقليدية وهو لا يعرف المجال أو الفضاء عند كل من لوباتشفسكي
وريمان.
2 _ الكفاية الديداكتيكية: الكفاية في هذا
المجال لا تعني أن يعرف المدرس جميع الأدبيات الديداكتيكية. فهذا أمر
مستحيل. إن الكفاية المهنية في مجال التعليم هي كفاية التواصل والتعاقد
والتفاهم مع المتعلمين. إنها كفاية تقترن بالأداء الكلامي الذي لا يمكن أن
ينجح فيه إلا بالاستعداد ووضع العدة اللازمة وتوفير الشروط الضرورية.
3 _ الكفاية في علم النفس التربوي: وتتمثل في
قدرة المدرس على الاستفادة من معطيات علم النفس وباقي العلوم التي تزوده
بمعلومات حول الطفل الذي يتعامل معه طوال سنة دراسية. ومن هذه العلوم
الأخرى، نجد السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا واللسانيات والتاريخ والفلسفة.
إن التخطيط قي البيت غير كاف، كما أن التكوين الذي يتلقاه الطالب الأستاذ
في مركز التكوين لا يؤهله لبناء الكفايات مع مجموعة غير متجانسة من
المتعلمين.
4 _ الكفاية التواصلية: ونعني بها قدرة المدرس
على التواصل مع ذاته ومع الغير. وذلك يقتضي شروطا منها المرونة والإنصات
والغيرية أو تفهم الآخر، واعتبار الفوارق والذكاءات المتعددة. وبطبيعة
الحال، إن كفاية المدرس تبقى ناقصة إذا لم تتحقق أيضا على مستوى علاقاته مع
زملائه والإدارة والآباء وباقي عناصر المنظومة التربوية.
ومن العوامل المساعدة على تحقيق كفاية التواصل
بين المدرس والمتعلمين، نجد قدرة المدرس على تتبع أنشطة المتعلمين
وسيرورات تعلمهم، والكشف عن الأخطاء التي يجب تصحيحها.
5 _ كفاية ضبط القسم: يربط دوكا ربطا قويا بين التسيير الجيد للقسم الدراسي وقدرة المدرس على تحقيق الجودة.
6 _ كفاية التحكم في الانفعال: يجب على المدرس
الناجح أن يتميز بضبط النفس والقدرة على التحكم في الانفعال لكي يتجنب
ردود الفعل السريعة والعنيفة والتي قد تؤدي إلى نتائج غير محمودة. ولعل
تاريخ الممارسة التربوية مليء بالحالات التي يمكن أن تشكل موضوعا للاشتغال
من أجل اكتساب هذه الكفاية. فالمدرس قد يحتاج إلى استثمار هذه الكفاية أمام
تلميذ يفتنه أو يغضبه، أمام فصل يفاجئه، أمام أب يعنفه... لذلك يجب على
المدرس التحكم في انفعالاته ليظل سيد نفسه، وسيد وضعيته المهنية.
7 _ كفاية الالتزام: تعني هذه الكفاية أن
يمارس المدرس عمله بمواظبة وإخلاص والتزام، مع مراعاة أخلاقيات المهنة،
لذلك على المدرس أن يظهر رغبة دائمة في الممارسة وفي الاستفادة من تكوين
حقيقي طوال مساره المهني.
وتذهب سهيلة الفتلاوي إلى وجود أربعة أبعاد من كفايات المعلم وهي:
1 _ البعد الأخلاقي: مثل التمتع بأخلاقيات مهنية عالية، العدل، الحماس، المرونة، والشجاعة...
2 _ البعد الأكاديمي: ويضم الكفايات المعرفية
الأكاديمية اللازمة لتمكينه من تدريس مادة ما بفعالية واقتدار، مثل الإلمام
بمادة التخصص، امتلاك مهارات التقصي والاكتشاف العلمي الاطلاع على جديد...
3 _ البعد التربوي: الذي يقترب بالقدرة على
استخدام المفاهيم والاتجاهات وأنواع السلوك الأدائي بإتقان، لتحقيق الأهداف
التربوية من مثل: تحليل محتوى المادة، تحليل خصائص المتعلم، صياغة أهداف
التدريس، تحديد طرائق التدريس والتقويم...
4 _ بعد التفاعل والعلاقات الإنسانية: ويضم
الكفايات الوجدانية والاجتماعية من مثل التعاون، وإقامة علاقات مع
المتعلمين والقائمة على الاحترام المتبادل وتشجيع المشاركة...
ويحدد فيليب بيرينو كفاية المدرس فيما يلي:
_ معرفة إدارة القسم.
_ القدرة على تنظيم العمل لفترة تكوينية ممتدة في المكان والزمان، كالدورات والمشاريع التربوية.
_ القدرة على التعاون مع الزملاء والعيش مع الجماعة والآباء وباقي الشركاء والفرقاء.
_ معرفة تطبيق منهجيات المشروع كأداة عمل منتظمة.
_ معرفة رصد تغيير ما يعطي المعارف والأنشطة المعنى والدلالة.
_ القدرة على ابتكار وتدبير وضعيات مشاكل، ورصد عوائق وتحليل وتأطير المهام.
_ القدرة على ملاحظة التلاميذ وهم يشتغلون.
_ تنظيم جدول عمل أو خطة عمل بيداغوجية.
_ تحضير وإعداد وإنجاز وضعية تعليمية وتقويمها.
_ تنظيم وضبط تسيير وضعية التعلم وتقويمها.
_ تدبير الظاهرات العلائقية.
_ تقديم المساعدة المنهجية للتلاميذ أثناء عملهم الشخصي.
_ توفير الظروف المناسبة لانبثاق المشاريع المهنية الإيجابية.
_ العمل بالطرق البيداغوجية الحديثة والملائمة لكل وضعية على حدة.
_ العمل مع شركاء (آباء، محاورون، مخاطبون،
وفرقاء وفاعلون في البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمدرسة)، وذلك
في إطار مشروع المؤسسة.
_ التمكن من المادة والانفتاح على المواد الأخرى.
_ أدوار المدرس الكافي: في ظل الوضعية التواصلية الهادفة إلى بناء الكفايات، يحدد بعض الباحثين للمدرس ستة أدوار هي:
1 _ المدرس مفكر: فهو الذي يخطط،
انطلاقا من معرفة جيدة للمنهاج، الأنشطة وفق المعارف القبلية للتلاميذ،
ويفكر في الصعوبات الواجب تجاوزها، وفي العدة البيداغوجية التي ينبغي وضعها
رهن إشارتهم من أجل القيام بمهارات وقدرات مستهدفة. ويتطلب كل هذا معرفة
جيدة بالتلاميذ وضرورة أخذ الفوارق بينهم بعين الاعتبار.
2 _ المدرس صاحب قرار: وهذا يعني أن من واجبه
أن يقرر كيف سيجعل التلميذ يعالج المعلومات اعتمادا على ذاته (التعلم
الذاتي). الشيء الذي يفترض معرفة واحترام فردية التلميذ. إن المدرس هو الذي
يقرر إذا بخصوص محتويات المقاطع، والأمثلة الملائمة التي تشد انتباه
التلاميذ.
3 _ المدرس محفز: من أجل تسهيل انخراط التلميذ
ومواصلة طريقته في التعلم، يجب على المدرس أن يقدم أنشطة تؤدي إلى الإحساس
بضرورة امتلاك كفايات تسمح بالتجريب والحق في الخطإ، وفي نفس الآن تجعله
مسؤولا عن النتائج التي يتوصل إليها.
4 _ المدرس نموذج: ينبغي أن يجعل من نفسه نموذجا يحتذى به.
5 _ المدرس وسيط: إذ يقود التلميذ نحو استقلالية كبرى في التعلم. وقد يجعل الزملاء يقومون بهذا الدور.
6 _ المدرس مدرب: إذ يضع التلميذ في وضعية مشكلة، ويساعده على اكتساب وتنمية المعارف التقريرية والإجرائية والشرطية.
أما الصفات الواجب توفرها في المدرس فتتمثل في:
_ التواضع: ولا تدل هذه الصفة إطلاقا على الجبن
أو الإذعان أو احترام الذات، إنها تستدعي على النقيض من ذلك الشجاعة
والثقة بالنفس واحترام الذات، واحترام الآخرين "إن صفة التواضع تعيننا على أن ندرك الحقيقة الواضحة التالية: لا يوجد إنسان يعرف كل شيء، ولا يوجد إنسان يجهل كل شيء"
"(المعلمون بناة ثقافة) / الرسالة الرابعة: "الصفات اللازمة للمعلمين التقدميين من أجل أداء أفضل" / ص: 100."
، والأكيد إن صفة التواضع وحدها هي التي تجعلنا نستمع باحترام إلى أولئك الذين نحكم عليهم بأنهم أدنى بكثير من كفاياتنا.
_ الحب: إنه الوقود الذي يعطي لكل مدرس
الطاقة اللازمة والضرورية لمزاولة مهنته بكامل الجدية والحيوية والنشاط،
إنه الشعور الإيجابي الذي يجعل المدرس يتحمل كل الصعوبات، ويتجاوز كل
العراقيل في سبيل بناء المتعلمين وإنارة عقولهم. إن هذا الحب لحقيقي يعتبر
من أهم مستلزمات صناعة التدريس، إنه ماؤها "الذي تتغذى به نباتاتها وأشجارها وحقولها. وهذا مت يجعله متعاطفا مع تلامذته، مراعيا الفروق الفردية والنفسية بينهم..."
"إنه
دون ذلك التسلح ما كان في مقدورهم الصمود حيال كل ما يقع عليهم من ظلم
واستهانة الحكومة بهم، كما يتجلى ذلك فيما يتعاطونه من مرتبات مزرية وعسف
في المعاملة"،
ومن الصفات الملازمة للحب فضيلة الشجاعة التي تمكننا من التغلب على مشاعر
الخوف التي تنتابنا: الخوف من القوة الطاغية السائدة، الخوف من فقدان
العمل، الخوف من عدم الترقية...
_ التسامح: إن التسامح "لا
يعني السكوت عما لا يحتمل، كما لا يعني التمويه بعدم الاحترام، ولا يعني
ملاطفة المعتدي وإخفاء الغضب. لكن التسامح هو الفضيلة التي تعلمنا كيف نعيش
مع من يختلف عنا، إنه يعلمنا عن طريق المختلف واحترامه."
، في غياب فضيلة التسامح لا وجود لأي عمل تربوي جاد، "ودونها لا يمكن أن تكون أي خبرة ديموقراطية أصيلة تستحق الجهد، ودونها سوف تفتقد كل ممارسة تربوية تقدمية نفسها"
.
ومن الصفات الأخرى الواجب التحلي بها:
الحسم، والشعور بالأمان، والتوتر القائم بين الصبر وعدم الصبر أو التعجل،
وبهجة العيش، ثم التذرع بالحكمة في مواجهة التعامل المتوتر بين حالة الصبر
واللاصبر أو الاندفاع...
تعليقات
إرسال تعليق